الخميس، 8 يناير 2015

إنَّمَا لا بَأسْ

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّمَا لا بَأسْ



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، أما بعد :

إنَّمَا لا بأس

نعم هي هكذا الحياة تمضي بنا ونسير في غيابة الجُّبِّ ليلتقطنا من غياهب الظلمات نور الوحي المبين ، فإن يوسُفَ عليه السلام ليس قصةً تروى لمنلئ فراغنا أو حادثة نقُصُها على أبنائنا قبل النومِ لعَلَّهُمْ يَرونَ في منامهم شيئا جميلا وحُلُماً شيقاً بدلاً من الواقع الذي يزداد سوءا يوما بعد يوم .


ليست أحداث ذلك البئرِ وتِلكَ الظلمات وما تَبِعَها من سِجنٍ ثم حُكْمٍ وسيادة وقوة ، ليست قصصا لتروى فقط فالله سبحانه أعظم من أن 

ينزل قرآنا يتلى فقط ليكون قصصا تروى بل ليكون واقعا يُعاشُ ويطُبَقُ ويُقامْ يقول تعالى في كتابه الكريم { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }  .
فإنَّ الفردَ المؤمن لا بد وأن يختبر الله إيمانه وقوته , نعم سيتعرض للفتن واحدة تتبعها أخرى , و فتنة تتلوها فتنةٌ حتى يخرج من كير الفتن كالذهب الخالص لا تؤثر فيه فتنة ولا يرتكس على عقبيه فذلك هو الصِدِّيِقُ حقا .
فإن ما وصل إليه يوسف عليه السلام لم يكن ليصل إليه لولا صبره وثباته وخالِصَ توكُلِهِ على الله . فقد تعرض للفتن واحدة تتلوها أخرى منذ أن كان طفلا صغيرا فكانت البداية في البئر والظلمة الموحشة ثم يباع ويشترى ثم فتنة لا يقوى عليها أعتى الرجال "فتنة امرأة العزيز" ثم السجن ثم يخرج من جديد بعد كل هذه الفتن وبعد كل هذا الوقت في الكير يكوى بنار الفتن واحدةً تتلوها أخرى لكي يُعَلِمَهُ الله ويهذبه ويجعله خالصا له لا يعتمد الا عليه ولا يتوكل الا على ربه .
حينها خرج عليه السلام فأصبحت البلاد في يديه وأقام العدل والقسط بين الناس وأعاد الله له من فقده من أهله بل كَرَّمَ أبويه بأن أعاد لهم ابنهم نبيا وصدِّيقا وحاكما لخزائن مصر متنفذا فيها .

دائما ما يتطلع الشباب الى النتائج والنهايات ولكنم لا يرون تلك البدايات التي صنعت هذه النتائج , لا يرون حجم المعاناة التي لاقاها أهل الإيمان قبل وصولهم الى نتائج تكتب بماء الذهب . بل إنَّ أحدهم يريد أن يكون صدِّيقا من دون أن يتعرضَ لفتنة واحدة وإن تعرض لفتنة انقلب على عقبيه خسر الدنيا والآخرة .
فالبعض يقول هذا نبي معصوم , عصمه الله من فتنة النساء وجعله خالصا له فكيف لنا بذلك , ويبدأ يحدث نفسه ويحتال عليه الشيطان ليقول له ستتوب يوما ما , وما فعله يوسف كان فِعلَ نبي وليس بشر عادي , وبهذا يحتال عليه الشيطان مرة تلو المرة حتى يجعله يُسقِطَه في الامتحانات والاختبارات الالهية .
فإن كان يوسف نبيا فهل كان أبو بكر نبي ؟! وهل كان صلاح الدين نبي ؟! وهل كان القعقاع نبي ؟!
بل لو كان ما تحمَّلَهُ هذا النبي لا يقوى عليه بشر هل كان الله ليقول في كتابه الكريم {  لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } ؟؟!!
لقد دعانا الله سبحانه لأن نتشبه بالنبي ونسير على خطاه , فلو كان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوى عليه بشر لما دعانا اليه ربنا وطالبنا بمتابعته , حاشَ للهِ أن يطالب عباده بما لا يطيقون .

بعد هذا العرض السريع والموجز لما تعنيه الابتلاءات والفتن , وما يكون من أمر البدايات من مِحَنْ , وما تؤول إليه النتائج من نجاح أو وَهَن حينها ينطق لسان المؤمن ليقول لأعدائه "إنَّما لا بأسْ" , نعم أنما لا بأس فمهما اشتد سواد الليل فلن يكون أكثر وحشة من ظلمة البئر التي أنارها الله برحمته ولطفه بعبده يوسُف , ومهما تكالبت عليك الفتن في الطرقات فلن تصل الى أن تجتمع نسوة المدينة كلها لتفتنك , ومهما حيكَ ضدك من كلام فلن تسجن في زنزانة كالتي كان فيها يوسف عليه السلام , ومهما فعل أهل الباطل من إجرام فلن يحولوا بينك وبين النتائج إن أنت أحسنت البدايات .

حينها ننشد جميعا ضد أهل البغي والظلم والمنافقين لنقول لهم :

أرونا بطشكم هيا ارونا... وطيشوا واملئوا من السجون
وآذونا بكل قوى لديكم... وزيدونا فإنَّا صابرون


نعم هذه هي عقيدة المؤمن , عقيدة راسخة لا تزلزلها الجبال , إيمان بالله لا تزعزعه الفتن , إخلاص وتجريد التوحيد لله , حتى قال عنهم ملك الصين حين طلب يزدجرد أن ينجده ضدهم : إنَّه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيشٍ أوله بمرو(مدينة في خرسان وهي الآن تابعة لروسيا) وآخره بالصين جهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدُّوها، ولو خلِّي لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم، وأرض منهم بالمساكنة، ولا تهّجهم ما لم يُهيجوك . ذكره ابن جرير في تاريخه (3/249).
نعم هو الصبر على البلاءات والفتن هو الطريق الى هذه النهايات , ولذا نقولها بصوت مرتفع لكل طاغوت وجبار عُتُلٍ عنيد , نقولها لكل شهوة وفتنة عرضت علينا من الدنيا لتصرفنا عن الآخرة , نقولها لأنفسنا تصبيرا بأن الله وما عند الله خير وأبقى , نقولها دوما في السجن وخارجه , نقولها في فتنة الشام وفلسطين , نقولها في سجن أبو غريب والأنبار , نقولها في الشيشان وبورما وكشمير , نقولها للعالم أجمع " إنَّما لا بأسْ " فنحن ماضون على الدرب لا نلين ولا نستكين حتى يحول الله بيننا وبينكم وينجز لنا موعودنا , فوالله إن باطن الأرض خير لنا من ظاهرها ما دام دنيانا لا يقام فيها شرع الله وحكمه , ولا خير فينا إن رضينا بهذه المهانة وهذا الذل , فلتصبوا علينا حمم ناركم وجحيمكم فلن تصدونا عن ديننا ما حيينا أبدا .

إنَّمَا لا بأس 

فطرة غيث
الخميس 17 ربيع الأول 1436 هـ 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.