الجمعة، 9 يناير 2015

انقلاب المفاهيم

بسم الله الرحمن الرحيم


الوطنيةُ والوطنْ


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :

حين يكثر أهل الباطل والخبث , ويطغى الزبد على وجه الماء الصافي , فلا بد حينها من أن تعيش وتتعايش  بل وربما تدعو الى مفاهيم منقلبة بموازين أرضية ما أنزل الله بها من سلطان . إن المستقرئ لكتاب الله يجد أقواما قد قلبّت الموازين والمفاهيم وبدَّلت وغيَّرت في المعاني والقيم , حتى صارت الأخلاق رذيلة وغدَت الرذيلة شهامة وأخلاقا .


( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) )

فها هو لوط عليه السلام ينكر على قومه ما يفعلونه من فاحشة ورذيلة إذ أنهم يأتون الذكور دون الإناث . فأنكر عليه قومه ذلك وَعَدَّوا التطهر من الرجال وعدم اتيانهم جريمة ورذيلة وأنَّ ما يفعلونه خلقا حميدا . نعم هذا كان ردُّهم لأن الموازين عندهم قد اختلت وأسس التربية قد انقلبت فنشأ فيهم الصغير وهو يرى أباه يفعل ذلك وتربت وسطهم النساء وهي تشاهدهم يقولون ويفعلون ما يفعلون فكانت نشأتهم وتربيتهم على هذا الباطل سببا في اختلاف معاييرهم في الحكم على الأشياء , حتى إذا بعث الله نبيا لهم يحذرهم من هذه الرذيلة ظنوه مجنونا ولم يحكموا عليه بعقولهم بل اتبعوا ما رأوا آباءهم عليه, فصارت الرذيلة أخلاقا حميدة وصار التطهر من إتيان الرجال والتوقف على الزواج الحلال صار جريمة يعاقب عليها ميزانهم المِعْوَجْ وقانونهم الوضعي . ولم يكن هذا في قوم لوط فقط , لا , بل هو هكذا في كل قوم طالت عليهم الفترة وابتعد الزمن بينهم وبين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم , والقرآن مليء بمثل تلك القصص التي توضح هذه الفكرة .

إنَّ المستقرئ لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد اختلافا كبيرا في المفاهيم والقيم بين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وبين ما نعيشه اليوم . وحقيقة فالاختلافات كثيرة وكبيرة ومعقدة ويصعب الحديث عنها كلها جملة واحدة فكل واحدة منها تحتاج كتاب فكيف بمقال واحد ؟! . لذا سأخصص هذا الجزء للحديث عن مفهوم الوطن والمواطنة وإن كان في العمر بقية سأحاول الحديث عن باقي المفاهيم وعلى الله التكلان .

منذ قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل جاهدا على ترسيخ مفهوم الولاء والبراء , مفهوم الحب في الله والبغض في الله . فكان صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه بل لدين الله فقط , كان لا يميز بين أبيض وأسود ولا عربي ولا أعجمي , بل كلهم سواسية في دين الله ولا فرق إلا في التقوى . بقي على هذا حتى أقام دولة تحترم أفرادها ويعيش فيها المسلم واليهودي والنصراني كلٌّ يأمن على نفسه وكلٌّ له حقوق وعليه واجبات حددتها الشريعة الاسلامية .

اتسعت الدولة الاسلامية فدخل الناس في دين الله أفواجا وامتدت حدودها من الصين شرقا الى الأندلس غربا حتى وقف أحد أمراء المسلمين الفاتحين للأندلس وقال والله لو أعلم أن خلف هذا البحر أرضا لخضت البحر إليها .

ومع اتساع الدولة وازدياد عدد أفرادها من أهل ذمة أو مسلمين لم يكن هناك فرق بين مسلم في الأندلس وبين مسلم في مكة المكرمة , بل ولم يكن هناك حدود تمنع انتقال المسلم من مكان الى آخر بكل حرية وأمن وأمان , حتى نص الفقهاء فقالوا " إذا سبيت امرأة في المشرق وجب على أهل المغرب تخليصها " . وقال الإمام مالك " يجب على المسلمين فداء أسراهم ولو استنفذت أموالهم " . وقال ابن تميمة رحمة الله "  إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة  " . فعاش المسلمون في عقيدة تربطهم وهي أن المسلم الذي يعيش في أبعد نقطة من الأرض هو أخي و واجب عليَّ نصرته ولا حدود بيني وبينه ولا أعلام ولا نشيد وطني ولا دول ولا أي شيء , بل إن دولة الاسلام كلها دولة واحدة لا تقسيمات بينها أبدا .

بقي الأمر على هذا النحو لفترة قاربت الأربعة عشر قرنا من الزمن . فكان هذا ميزانهم وكانت هذه المفاهيم جزءاً من عقيدتهم بها يفهمون وبها يقيسون الأمور والمقاصد وبها يكيلون الحب والبغض . فهم يحبون في الله ويبغضون في الله ولا دولة لديهم الا دولة الاسلام ولا راية لهم الا راية الخلافة ولا فرق بينهم الا بالتقوى . بقي الأمر هكذا حتى هُدِمَت دولة الخلافة وانتهت رسميا بتاريخ 27 رجب 1342 هجري الموافق 3 آذار / مارس 1924 .

بعد سقوط الخلافة " ومن قبل " سّعَتْ دول الكفر الى وضع حد لهذا العملاق الذي لا يمكن إيقافه إن وقف من جديد وعاد الى سُدَّت الحُكمْ , وكانوا أخزاهم الله يعلمون أن سر قوة هذه الدولة في عقيدتها فهي لا تعرف حدودا ولا أوطانا ولا تعرف تقسيمات فيما بينها فالكل عندها سواسية لا فرق بينهم إلا بالتقوى , ودولة كهذه لو استنفرت جيشها لكان جيشا بالملايين يغرق أوروبا بأكملها من دون سلاح . فكان الحل لديهم بأن ينزعوا هذه العقيدة ويبدلوها ويضعوا موازين جديدة لكي يحتكم الناس إليها ويقيسوا الأمور بها وكان من ضمن ما فعلوه أن قسموا هذه الدولة أقساما وجعلوا لكل اسم حدودا وعلما ولكل قسم هوية وجواز سفر . وأدخلوا ذلك في مناهجنا ليدرسونا إياه . ووضعوا على سُدَّة الحكم أصناما يحركونها كيف شاؤوا .

فتربى الجيل الجديد على عقيدة جديدة ومفاهيم أخرى عكس كل تلك المفاهيم الأصلية . فصار الوطن هو تلك البقعة الجغرافية التي لها حدود تحدها من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها ولها رسمة على الخريطة ولها حاكم وجيش وعلم ونشيد وطني ويوم استقلال . فبدأ الناس ينادون ( إنما المواطنون إخوة ) وأخذ الحاكم يهتف بها وكأنه يردد قولا رزينا وشيئا قيما وأخلاقا عاليه وفي الواقع ما هذه الجملة إلا محادة ومحاربة لله ورسولة وتحريف لكتابه الكريم , فقد تعالى ( إنما المؤمنون إخوة ) وهذا هو الميزان الحقيقي أما الميزان الحالي ( إنما المواطنون إخوة ) هذا ميزانٌ يشبه ميزان آل لوط عندما قالوا ( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) .

نعم أيها الحبيب لا تستغرب فنحن في زمن انقلبت فيه المفاهيم , وفي ظل انقلاب المفاهيم والموازين سترى اشياء تشيب لها الولدان ولكن الناس يهتفون بها ويرددونها يوما بعد يوم بل ويقاتلون عليها ويموتون من أجلها وكأنها خُلقاً حميدا وشيئا جيدا ومن فعلها فهو في دينهم ودنياهم شهيد .!!

في مثل هذه المفاهيم أصبحنا نرى الحب والبغض على أساس الوطن والمواطنة لا على أساس الحب في الله والبغض في الله.
أصبحنا نرى أن السوري مسؤول عن وطنه ولا يحق لك ان تتدخل فيه فهذا شأن داخلي .
واصبحنا نرى أن الفلسطيني مسؤول عن أرضه بل هو الذي باعها وتخلى عنها ولا يحق لك أن تنصره .
وأن العراقي مسؤول عما يجري في أرضه ولا يحق لأحد ان يجاهد في العراق  بل هي للعراقيين فقط .
في ظل انقلاب المفاهيم اصبحت مصر للمصريين فقط ولا يهم إن كانوا ملاحدة أو محاربيين لدين الله أم لا , المهم أنهم مصريين ومعهم جواز سفر مصري , وإن تكلمت في شأن مصر سمعتهم يصرخون بوجهك " لو سمحت ممتكلمش عن مسر والتهي ببلدك ومشاكلها " . وللأسف سترى وتسمع هذا الكلام من كثير ممن يلبس ثوب الاسلام زورا وبهتانا , ستسمعه من شيوخ وعلماء وتسمعه من خريجي الأزهر أو غيره من جامعات هذه الدول العفنة المهترئة , نعم سترى كل بلد يرفع علم بلده وما درى أنه بذلك يطمس جزءا كبيرا من عقيدة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وبرفعه لعلم خاص ببلده يرسخ مفهوما باطلا باسم الوطن والمواطنة وحب الوطن وغيرها من المفاهيم التي انقلبت .

بعد أن قرأت هذه السطور لا بد أنك تتسائل : ما الذي أستطيع فعله ؟

تستطيع فعل الكثير و الكثير , تستطيع أن تنشر عقيدتنا بين أهلك وناسك وقبل هذا أن تجعلها في قلبك وتحفرها بداخلك , تستطيع أن تزيل كل مظهر من مظاهر مناصرة هذا الميزان المختل فلا ترفع لهم علما ولا تردد خلفهم نشيدا ولا تنتصر لشيء من باطلهم , بل ردد دائما أن الاسلام واحد وعقيدته واحدة وله دولة واحدة لا راية لها إلا راية العُقَاب , دولة تنتصر لأبنائها وتنصرهم لا يهم أين يسكنون المهم أنهم لها منتمون ولعقيدتها حاملون وعنها يدافعون ولإقامتها يعملون .

وكن على ثقة ان أرباب المفاهيم المعكوسة سيذهبون إلى زوال وإن شئت فانظر الى ميزان آل لوط إلى أين آل ؟! وليس هذا مع آل لوط فقط بل هو مع كل من حاول أو يحاول تغير النظام إلهي والمفاهيم السماوية ليضع مكانها نظاما ومفهوما معكوسا مركوسا وتجده في كل قوم وفي كل قرية ومدينة جاءها المرسلون . يقول تعالى  
  
( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62)أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) )


أمتي فاستبشري :: وإمسحي دمع الاسي

وارسميها بسمة ^_^ :: رغم آلام عسي ان يعود الفجر فجرا :: كي يغادرنا المسا


الوطنية والوطن

قطرة غيث

السبت 19 ربيع الأول 1436 هجري



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.