في هذه الليله الشتائيةِ الهادئة , وبعد أن دخلت في النصف الثاني من العقدِ الثاني من حياتي , وبعد أن بدأت أفقد الأمل في أن أجد ما حَلُمتُ يوما به,طَرَقت باب فكري من جديد, وهمَسْت بصوت عنيد " أعِدِ الكتابةَ مرةً أخرى ".
جلستُ أنا وقهوتي وسجائري , وحدنا ,أبحثُ عن كلامٍ لِأبتَدِأ به , فلستُ أعلمُ أين البدايةَ ومتى , ولستُ أذكرُ من عمُري شيئا قَبْلَها وكأنَهَا ميلادي الذي لم يَحِنْ بعد.
تجتاحني أعاصيرٌ لا تقبَلُ الترجَمة ولا تخضعُ للترويضِ مع الزمن فصدق فيها قول من قال - اذا لم يزدك البُعدُ حباً فأنتَ لم تُحِب منذ البدايه - فكيف إذا لم تَلتَقِ بها أساساً ؟!
رَجَعتُ من جديد لِأُوازِنَ بَينَ هاتيكَ المشاعِرِ كُلها , ما بين عشقٍ وجَرح , ما بين ألمٍ وفرح , ما بين لقاءٍ ووداع.
لم أجد نفسي قادرا على الكتابةِ رغمَ فصاحةِ لساني , فأنا أتَكَلمُ العربيةَ منذُ ما يزيدُ عن خمسةٍ وعشرينَ عاما , إلا أنني وفي هذه اللحظه رجعتُ لِأقرأَ الأبجدية من جديد , عَلَّني أجدُ حَرفاً يُسعِفُنِي في مقالتي للوصف والتعبير مع عِلمي أن للحُب دستورٌ خَفيّ لا يَعلَمهُ الا من جَربّهْ , فلو قرأتَ ألفَ ألفَ كتابٍ عنهُ وروايةٍ فلن تعلَمَهُ حتى يعلَمَك , ولن تُقابِلهُ حتى يُقابِلَك , فكيف إذا كان هذا الحب لم يُكْتَبْ عنه من قبل ؟! إذ هو ليس عشق لأنثى ؟!.
كما قلتُ لكَ فأنا لا أذكُرُ متى كانت بدايتي معها , فما أشعرُ بِه وأتذَكرُه أنها كُانت في ذاكرتي وأوراقي منذُ اللحظةِ الأولى لولادتي .فأنا قَد وُلِدتُ لاجئاً في أرضٍ خُلِقَت للسلام وما رأت يوماً سلاما . لا أعلمُ هل أنا ككل البشر لي تاريخُ ميلادٍ واحدٍ أم أن لي اثنين نسيت الأول بصدمةٍ ... ونقشتُ الأخر خوفَ الضياع ؟!
بغض النظر عن كل هذا , فأنا أعلمُ يقينا أنك الآن تشتاقُ لمعرفة من هي تلكَ الفاتنةُ السمراء ؟! وإن لم تكن أنثى كما قرأتْ ... فمن تكون ؟! أسْمَعُكَ تصيح بي " هيا انْطِقْ بِها فَلَقَدْ أتعبتَ عَقلِيَ بِالبَحْثِ والتنقيب وأثَرْتَ بركان فضولي . أعْلَمُ ذَلِكَ أيها الحبيب , ولكن اعذرني فحتى النطقَ بِهَا ... ممنوعٌ في بلادي أبدا .
فَبِلادي يَحكُمُها من قَتَل يحيى وزكريا عليهما السلام , ويعيش فيها غَصباً من عَبَدَ العِجْلَ وبينهم موسى وهارون عليهما السلام , بَل ويمتلك القوةَ والبَطشَ فيها من وَشَى بِالمسيِحِ عيسى عليه السلام , وهو هو نَفْسُهُ من دَسَّ السُمَّ لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام . فإنْ أنَا أخْرَجْتُ حروف اسمها من فَمِي فَلستُ بِخَيرٍ مِمَنْ قَد ذَكَرتْ وقد علمتَ ما فَعَلوا بِهِمْ فَكنْ عَليَّ من المُشْفِقِين .
حسناً لا تبتأس وأزل تلك الحَيْرَةَ عنك سأعطيك تلميحاتٍ عنها ولا تَسَلني بعدها من هي . فَمِثْلُهَا لا يَعْرِفُهَا إلا مَنْ شُرِِّدَ من وَطَنِه , وخَانَهُ أهلُهُ , وَ قَتَلهُ البردُ وحيداً هناك يناجي ربَهُ أن يُعَجِّلْ لَهُ بِها , فَمِنْ دُونِها لَنْ يَجِدَ الطريقَ إلى حَيفا ولن يعود الى بيارات يافا ولن يَتَنَسَمَ هواءَ تَلِ الرَبِيع .
يا صديقي بلادي حَيثُ أعيشُ أنا هناك حاكمٌ يَلْبَسُ مِثْلَ ثِيَابِنَا ويَتَكَلمُ بِلِسَانِنَا ويَأكُلُ مِنْ طَعَامِنَا ويُصَلِي مِثلَنَا ويَحَجُّ أيضا ولكن حَجُّهُ ليسَ إلى الكعبةِ أبدا وإنما هناك الى باريس حيث يساندُ المظلومين والمقهورين ضد ارهابي وارهابِ شَعْبِي وضد ارهاب أهل المخيمات و مَنْ هُمْ مِثَلَنَا الذين ما فَتِئوا يُرَدِدُونَ اسْمَ مَحْبُوبَتِي مُتَمَنَِينَ نَوَالَهَا لِكَي يَقْطَعُوا بِهَا رَأسَ حُكَامِنَا قَبْلَ أنْ يَصِلوا إلى تلِ الرَبِيعْ .
اشتقتُ إليْهَا كَثِيراً وَ دَوماً مَا أُرَدِّدُ فِي صَمْتٍ أنْ يُعَجِّلَ اللهُ لي بِها فَلَئِنْ قَابَلتُهَا أُقسِمُ بِمَنْ حَرَمَ القَسَمَ بِغَيْرِهْ أنني لنْ أدَعَهَا تُغَادِرُ صَدْرِي حتى تُغَادِرَنِي روحي ولألثُمَّنَّ فَاهَا وَلَأروِيَنَّ شوقي وحنيني منها ولأسمَعّنَّ لَحنَها وهي تُرتِلُ في إيمانٍ ويقين " وما رَمَيتَ إذ رميت ولكنَ اللهَ رمى " .
حين يكثر أهل الباطل والخبث , ويطغى الزبد على وجه الماء الصافي , فلا بد حينها من أن تعيش وتتعايش بل وربما تدعو الى مفاهيم منقلبة بموازين أرضية ما أنزل الله بها من سلطان . إن المستقرئ لكتاب الله يجد أقواما قد قلبّت الموازين والمفاهيم وبدَّلت وغيَّرت في المعاني والقيم , حتى صارت الأخلاق رذيلة وغدَت الرذيلة شهامة وأخلاقا .
فها هو لوط عليه السلام ينكر على قومه ما يفعلونه من فاحشة ورذيلة إذ أنهم يأتون الذكور دون الإناث . فأنكر عليه قومه ذلك وَعَدَّوا التطهر من الرجال وعدم اتيانهم جريمة ورذيلة وأنَّ ما يفعلونه خلقا حميدا . نعم هذا كان ردُّهم لأن الموازين عندهم قد اختلت وأسس التربية قد انقلبت فنشأ فيهم الصغير وهو يرى أباه يفعل ذلك وتربت وسطهم النساء وهي تشاهدهم يقولون ويفعلون ما يفعلون فكانت نشأتهم وتربيتهم على هذا الباطل سببا في اختلاف معاييرهم في الحكم على الأشياء , حتى إذا بعث الله نبيا لهم يحذرهم من هذه الرذيلة ظنوه مجنونا ولم يحكموا عليه بعقولهم بل اتبعوا ما رأوا آباءهم عليه, فصارت الرذيلة أخلاقا حميدة وصار التطهر من إتيان الرجال والتوقف على الزواج الحلال صار جريمة يعاقب عليها ميزانهم المِعْوَجْ وقانونهم الوضعي . ولم يكن هذا في قوم لوط فقط , لا , بل هو هكذا في كل قوم طالت عليهم الفترة وابتعد الزمن بينهم وبين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم , والقرآن مليء بمثل تلك القصص التي توضح هذه الفكرة .
إنَّ المستقرئ لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد اختلافا كبيرا في المفاهيم والقيم بين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وبين ما نعيشه اليوم . وحقيقة فالاختلافات كثيرة وكبيرة ومعقدة ويصعب الحديث عنها كلها جملة واحدة فكل واحدة منها تحتاج كتاب فكيف بمقال واحد ؟! . لذا سأخصص هذا الجزء للحديث عن مفهوم الوطن والمواطنة وإن كان في العمر بقية سأحاول الحديث عن باقي المفاهيم وعلى الله التكلان .
منذ قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل جاهدا على ترسيخ مفهوم الولاء والبراء , مفهوم الحب في الله والبغض في الله . فكان صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه بل لدين الله فقط , كان لا يميز بين أبيض وأسود ولا عربي ولا أعجمي , بل كلهم سواسية في دين الله ولا فرق إلا في التقوى . بقي على هذا حتى أقام دولة تحترم أفرادها ويعيش فيها المسلم واليهودي والنصراني كلٌّ يأمن على نفسه وكلٌّ له حقوق وعليه واجبات حددتها الشريعة الاسلامية .
اتسعت الدولة الاسلامية فدخل الناس في دين الله أفواجا وامتدت حدودها من الصين شرقا الى الأندلس غربا حتى وقف أحد أمراء المسلمين الفاتحين للأندلس وقال والله لو أعلم أن خلف هذا البحر أرضا لخضت البحر إليها .
ومع اتساع الدولة وازدياد عدد أفرادها من أهل ذمة أو مسلمين لم يكن هناك فرق بين مسلم في الأندلس وبين مسلم في مكة المكرمة , بل ولم يكن هناك حدود تمنع انتقال المسلم من مكان الى آخر بكل حرية وأمن وأمان , حتى نص الفقهاء فقالوا " إذا سبيت امرأة في المشرق وجب على أهل المغرب تخليصها " . وقال الإمام مالك " يجب على المسلمين فداء أسراهم ولو استنفذت أموالهم " . وقال ابن تميمة رحمة الله " إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة " . فعاش المسلمون في عقيدة تربطهم وهي أن المسلم الذي يعيش في أبعد نقطة من الأرض هو أخي و واجب عليَّ نصرته ولا حدود بيني وبينه ولا أعلام ولا نشيد وطني ولا دول ولا أي شيء , بل إن دولة الاسلام كلها دولة واحدة لا تقسيمات بينها أبدا .
بقي الأمر على هذا النحو لفترة قاربت الأربعة عشر قرنا من الزمن . فكان هذا ميزانهم وكانت هذه المفاهيم جزءاً من عقيدتهم بها يفهمون وبها يقيسون الأمور والمقاصد وبها يكيلون الحب والبغض . فهم يحبون في الله ويبغضون في الله ولا دولة لديهم الا دولة الاسلام ولا راية لهم الا راية الخلافة ولا فرق بينهم الا بالتقوى . بقي الأمر هكذا حتى هُدِمَت دولة الخلافة وانتهت رسميا بتاريخ 27 رجب 1342 هجري الموافق 3 آذار / مارس 1924 .
بعد سقوط الخلافة " ومن قبل " سّعَتْ دول الكفر الى وضع حد لهذا العملاق الذي لا يمكن إيقافه إن وقف من جديد وعاد الى سُدَّت الحُكمْ , وكانوا أخزاهم الله يعلمون أن سر قوة هذه الدولة في عقيدتها فهي لا تعرف حدودا ولا أوطانا ولا تعرف تقسيمات فيما بينها فالكل عندها سواسية لا فرق بينهم إلا بالتقوى , ودولة كهذه لو استنفرت جيشها لكان جيشا بالملايين يغرق أوروبا بأكملها من دون سلاح . فكان الحل لديهم بأن ينزعوا هذه العقيدة ويبدلوها ويضعوا موازين جديدة لكي يحتكم الناس إليها ويقيسوا الأمور بها وكان من ضمن ما فعلوه أن قسموا هذه الدولة أقساما وجعلوا لكل اسم حدودا وعلما ولكل قسم هوية وجواز سفر . وأدخلوا ذلك في مناهجنا ليدرسونا إياه . ووضعوا على سُدَّة الحكم أصناما يحركونها كيف شاؤوا .
فتربى الجيل الجديد على عقيدة جديدة ومفاهيم أخرى عكس كل تلك المفاهيم الأصلية . فصار الوطن هو تلك البقعة الجغرافية التي لها حدود تحدها من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها ولها رسمة على الخريطة ولها حاكم وجيش وعلم ونشيد وطني ويوم استقلال . فبدأ الناس ينادون ( إنما المواطنون إخوة ) وأخذ الحاكم يهتف بها وكأنه يردد قولا رزينا وشيئا قيما وأخلاقا عاليه وفي الواقع ما هذه الجملة إلا محادة ومحاربة لله ورسولة وتحريف لكتابه الكريم , فقد تعالى ( إنما المؤمنون إخوة ) وهذا هو الميزان الحقيقي أما الميزان الحالي ( إنما المواطنون إخوة ) هذا ميزانٌ يشبه ميزان آل لوط عندما قالوا ( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) .
نعم أيها الحبيب لا تستغرب فنحن في زمن انقلبت فيه المفاهيم , وفي ظل انقلاب المفاهيم والموازين سترى اشياء تشيب لها الولدان ولكن الناس يهتفون بها ويرددونها يوما بعد يوم بل ويقاتلون عليها ويموتون من أجلها وكأنها خُلقاً حميدا وشيئا جيدا ومن فعلها فهو في دينهم ودنياهم شهيد .!!
في مثل هذه المفاهيم أصبحنا نرى الحب والبغض على أساس الوطن والمواطنة لا على أساس الحب في الله والبغض في الله.
أصبحنا نرى أن السوري مسؤول عن وطنه ولا يحق لك ان تتدخل فيه فهذا شأن داخلي .
واصبحنا نرى أن الفلسطيني مسؤول عن أرضه بل هو الذي باعها وتخلى عنها ولا يحق لك أن تنصره .
وأن العراقي مسؤول عما يجري في أرضه ولا يحق لأحد ان يجاهد في العراق بل هي للعراقيين فقط .
في ظل انقلاب المفاهيم اصبحت مصر للمصريين فقط ولا يهم إن كانوا ملاحدة أو محاربيين لدين الله أم لا , المهم أنهم مصريين ومعهم جواز سفر مصري , وإن تكلمت في شأن مصر سمعتهم يصرخون بوجهك " لو سمحت ممتكلمش عن مسر والتهي ببلدك ومشاكلها " . وللأسف سترى وتسمع هذا الكلام من كثير ممن يلبس ثوب الاسلام زورا وبهتانا , ستسمعه من شيوخ وعلماء وتسمعه من خريجي الأزهر أو غيره من جامعات هذه الدول العفنة المهترئة , نعم سترى كل بلد يرفع علم بلده وما درى أنه بذلك يطمس جزءا كبيرا من عقيدة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وبرفعه لعلم خاص ببلده يرسخ مفهوما باطلا باسم الوطن والمواطنة وحب الوطن وغيرها من المفاهيم التي انقلبت .
بعد أن قرأت هذه السطور لا بد أنك تتسائل : ما الذي أستطيع فعله ؟
تستطيع فعل الكثير و الكثير , تستطيع أن تنشر عقيدتنا بين أهلك وناسك وقبل هذا أن تجعلها في قلبك وتحفرها بداخلك , تستطيع أن تزيل كل مظهر من مظاهر مناصرة هذا الميزان المختل فلا ترفع لهم علما ولا تردد خلفهم نشيدا ولا تنتصر لشيء من باطلهم , بل ردد دائما أن الاسلام واحد وعقيدته واحدة وله دولة واحدة لا راية لها إلا راية العُقَاب , دولة تنتصر لأبنائها وتنصرهم لا يهم أين يسكنون المهم أنهم لها منتمون ولعقيدتها حاملون وعنها يدافعون ولإقامتها يعملون .
وكن على ثقة ان أرباب المفاهيم المعكوسة سيذهبون إلى زوال وإن شئت فانظر الى ميزان آل لوط إلى أين آل ؟! وليس هذا مع آل لوط فقط بل هو مع كل من حاول أو يحاول تغير النظام إلهي والمفاهيم السماوية ليضع مكانها نظاما ومفهوما معكوسا مركوسا وتجده في كل قوم وفي كل قرية ومدينة جاءها المرسلون . يقول تعالى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله , أما بعد :
سورة آل عمران هي أول سورة من القرآن قرأتها بقلبي لا بلساني , وكان لها تأثير كبير على تغيير مسار حياتي كله من شاب لا علم له بشيء ولا طاقة لديه لمواجهة ما يدور حوله ; بعد أن خسر كل شيء ووجد نفسه معزولا عن الناس أجمعين ; الى شاب لا شيء يستطيع إيقافه وتغيير اتجاهه , فقد رَكَزَتْ هذه السورة في قلبي قبل عقلي وأودعتني طاقة لا أظن أن يجد يمثلها الا من قرأ هذه السورة وفهم معناها قبل أن يردد حروفها بفم أجوف لا تجاوز قراءته حنجرته . لذا كان لا بد أن يكون لي وقفة لأسَطِّرَ بعض الذي استخلصته منها وأودعكم إياه عسى أن يكون سامعٌ خيرٌ مِنْ مُبَلِّغْ .
لن أتكلم عن تفسير الآيات وأسباب النزول فذاك علم له أهله ولكن هذه الأسطر ستكون أقرب الى خاطرة جالت في الفكر فغيرته واستوطنت العقل فهذَّبَتْه واتخذت من الصدر بيتا خاليا فاستوطنته .
في هذه السورة الكثير من الآيات والعِبَر التي يجب أن ترسخ في أذهان شبابنا وفتياتنا وأمهاتنا , لأنه وللأسف الكل يريد الجنة وقليل هم العاملون , والكل يريد إقامة شرع الله وقلة هم لدمائهم الباذلون .
فمن منا لم يستمع لأخته أو أمه وهي تحاول منعه من فعل شيء بحجة أننا مستضعفون ؟!
ترى الفرحة في أعينهم إثر خبر عاجل عن عملية في قلب تل الربيع المحتلة
ولكن إن خرجت أنت حينها يكون الرد :
أضعت عمرك وشبابك , رحمةً بِنَا يا بني فلسنا ليهود قادرون وهؤلاء يدفعون بالصغار وهم على الكراسي جالسون .
إبقى هنا معنا وحين يجيء جيش محمد سيرون أنَّا صامدون . فللبيت رب يحميه .
مَنْ مِنَّا لم يسمع تلك الكلمات أو لم يحدث نفسه بها ؟!
المستقرئ لسورة آل عمران يجد ردا على كل تلك الشبهات والآفات يدفعك لتصدق حتما أنه لا مفر من الممات فإما أن تكون شهيدا في طريق النصر الذي هو آتٍ آت , أو أن تَظلَّ قاعِدا لِتَخْسَرَ أسمى المَكرماتْ.
فمن كان لديه شك أنه ميت لا محالة سيجد ردا من الله مزلزلاً لكيانه في هذه السورة , يقول تعالى { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }.
ففي كل الأحوال ستموت , ليس مهما أن يكون برصاصة أو حادث سير , فلا علاقة للرصاصة بقتلك وإنما انتهاء الأجل هو السبب الرئيسي للموت.
ولكنَّ الانسان كثير الجدال لا يقتنع هكذا , وهو ضعيف أمام شهوات نفسه , والشيطان يزين له أعماله ولن يترك بابا الا ويطرقه لكي يثنيك عن المضي قدما في ذلك الطريق , لا لشيء إلا لأنه يعلم ما هي النتيجة لهذه البداية وتلك النهاية . فيزين لك مرة تلو مرة بأن يهود أكثر منا عددا وعدَّة وأننا لا نملك شيئا , هنا تأتيك الآية التي تلي السابقة مباشرة فتسمع صوت ربك يقول لك :
ثم يدخل الوعظ والزجر مرحلة هي أكثر قوة وأكثر تأثيرا , ففي حين يزداد ضغط المحيطين بك ليجروك معهم في صفوف القاعدين , ويصبح صوتهم يتردد في أذنك ليلا ويعيده عليك إبليس بثوب الناصح الأمين " أنت وحدك , واقترابك من الجهاد محرقة لك ولأهلك ولن تقوى عليهم فهم أمة وجيش بأكلمه تسانده جيوش المنافقين , فابقى هنا وارفض بقلبك فإنك من المستصعفين " .
هنا يأتي ردٌّ يهزُّ الأعماق ويزلزل الوجدان فاسمعه بقلبك وارعه وعِهِ جيدا :
هل سمعته جيدا ؟! أعده مرة أخرى , نعم أعده مرة أخرى لتجد ردا على كل تلك النصائح الإبليسية التي يلقيها عليك فتستمع لها وتقعد بسببها عن الجهاد .
أعده مرة أخرى واحفظه جيدا . أعده مرة أخرى لتجد أن الله سبحانه يخاطب المؤمنين ( يا أيها الذين آمنوا ) , يعني أنا وأنتَ وأنتِ وأنتم وأنتن ونحن جميعا , فهذا خطاب لنا حين نسمعه نعلم أننا نحن المخاطبون فنتشخَصُ أبْصَارُنَا لقول ربنا لنعلم ما الذي يريده الله منا سبحانه في هذا الخطاب الرباني العظيم ؟!
( لا تكونوا كالذين كفروا ) لحظة ! انتظر ! إنَّه تحذير لي ولكَ ولكِ .
تحذير من ماذا ؟ تحذير من أن نكون كالكافرين ونشابههم . نعوذ بالله أن نكون منهم , رباه سبحانك هذا خطب جلل وخطاب عظيم وتحذير ذو أهمية بالغة ( لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . سبحان الله نفس النصائح التي كان يقليها عليك إبليس بثوب الناصح الأمين هي هي نفسها التي قدمها الكافرون لمن خرج مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
إذا ماذا أفعل ؟! هنا قد علمت يقينا أن من يلقي عليك الكلام ليس بناصح ولا أمين لأن الله تعالى يقول وقوله الحق ( لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) فإياك أن تصدق مرة أخرى كلام ذاك الشيطان اللعين أكان شيطان جن أم شيطان إنس .
وإن صدقته واتبعته فإليك النتيجة يعطيك الله إياها في آية تتلى الى يوم الدين ( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) نعم هذا الكلام حسرة في قلب كل من يقول أن الاقدام على الجهاد ينقص من العمر شيئا أو من يقول لو أنه لم يذهب لكان بيننا الآن حيا يرزق , لا والله كذبتم ورب الكعبة وما ذاك الا حسرة في قلوبكم لعدم يقينكم بأن الله يحيي ويميت ولعدم يقينكم بأن الله بما تعملون بصير , فذاك الشيطان وسوس لكم وزين لكم هذا القول فاتبعتموه وكان لكم حسرة وخسرانا مبينا وإن شئتم فاقرؤا قوله تعالى ( والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ) .
ولكن الخطاب الإلهي لم ينتهي بعد , فما زال هناك تتمتة لهذا الخطاب الذي اختص به الله سبحانه عباده المؤمنين ليثبت قلوبهم وليربط عليها ويزيدهم يقينا أنهم على الطريق الصحيح , ويثبت قلب من بقي من بعدهم حتى لا يوسوس الشيطان لأحدهم أن ابنك لو لم يجاهد لكان الان معك منعما مكرما , استمع لما يقوله الله سبحانه لي ولك :
نعم أيها الحبيب , نعم أيتها الأم الصابرة , نعم أيتها الأخت التي فقدت أخاها أو زوجها , نعم هذا خطاب الله لمن فقد أحدا من أهله في درب الجهاد , يخاطبكم الله ويقول لكم ( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ) كل دنياكم هذه لا تساوي شيئا أمام مغفرة الله ورحمته لهذا الشهيد , نعم , كل أموالكم وكل قصوركم وكل نساء الدنيا بجمالهن وزينتهن لا يساويين شسئا أمام مغفرة الله ورحمته لمن اختاره شهيدا .
ثم يحذر سبحانه مرة أخرى من أن يفر أحدنا من القتال في سبيله ويَخْلّدَ إلى الدنيا الغرور فيقول سبحانه ( لإلى الله تحشرون ) . فالأولى وعد بالمغفرة والرحمة لمن أقدم على الجهاد واختاره الله شهيدا أما الثانية فهي تهديد وزجر بأننا الى الله مرجعنا وهناك الحساب والجزاء الأوفى , فالفائز من نال الرحمة والمغفر والخاسر من خسر رحمة الله ومغفرته .
الكلام يطول ويطول ولا بد لنا وقفات أخرى طويلة مع سورة آل عمران ولن أطيل أكثر من ذلك ولكن أوجه كلمة لنفسي ولكل من يقرأ فأقول :
ألم يجذبك الشوق بعد الى رحمة الله ومغفرته ؟!
ألم تؤمن يقينا بعد أن حياتك خارج الجهاد لا تطول كما أن حياتك داخله لا تَقْصُر ؟!
ألم تصدقي بعد يا أماه ويا أختاه أن ابنك أو أخاك لن ينال عِزّاً مهما عاش بينكم إلا حين يختاره ربه سبحانه ليكون شهيدا ؟!
إلى متى سنهرب من موت الى موت ؟!
إلى متى سنهرب من ذُّلٍ الى ذل ؟!
الحديث متصل و ذو شجون , سأدعك الآن بين يدي هذه الكلمات وألتقيك في وقت آخر إن شاء الرحمن .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، أما بعد :
إنَّمَا لا بأس
نعم هي هكذا الحياة تمضي بنا ونسير في غيابة الجُّبِّ ليلتقطنا من غياهب الظلمات نور الوحي المبين ، فإن يوسُفَ عليه السلام ليس قصةً تروى لمنلئ فراغنا أو حادثة نقُصُها على أبنائنا قبل النومِ لعَلَّهُمْ يَرونَ في منامهم شيئا جميلا وحُلُماً شيقاً بدلاً من الواقع الذي يزداد سوءا يوما بعد يوم .
ليست أحداث ذلك البئرِ وتِلكَ الظلمات وما تَبِعَها من سِجنٍ ثم حُكْمٍ وسيادة وقوة ، ليست قصصا لتروى فقط فالله سبحانه أعظم من أن
ينزل قرآنا يتلى فقط ليكون قصصا تروى بل ليكون واقعا يُعاشُ ويطُبَقُ ويُقامْ يقول تعالى في كتابه الكريم{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
فإنَّ الفردَ المؤمن لا بد وأن يختبر الله إيمانه وقوته , نعم سيتعرض للفتن واحدة تتبعها أخرى , و فتنة تتلوها فتنةٌ حتى يخرج من كير الفتن كالذهب الخالص لا تؤثر فيه فتنة ولا يرتكس على عقبيه فذلك هو الصِدِّيِقُ حقا .
فإن ما وصل إليه يوسف عليه السلام لم يكن ليصل إليه لولا صبره وثباته وخالِصَ توكُلِهِ على الله . فقد تعرض للفتن واحدة تتلوها أخرى منذ أن كان طفلا صغيرا فكانت البداية في البئر والظلمة الموحشة ثم يباع ويشترى ثم فتنة لا يقوى عليها أعتى الرجال "فتنة امرأة العزيز" ثم السجن ثم يخرج من جديد بعد كل هذه الفتن وبعد كل هذا الوقت في الكير يكوى بنار الفتن واحدةً تتلوها أخرى لكي يُعَلِمَهُ الله ويهذبه ويجعله خالصا له لا يعتمد الا عليه ولا يتوكل الا على ربه .
حينها خرج عليه السلام فأصبحت البلاد في يديه وأقام العدل والقسط بين الناس وأعاد الله له من فقده من أهله بل كَرَّمَ أبويه بأن أعاد لهم ابنهم نبيا وصدِّيقا وحاكما لخزائن مصر متنفذا فيها .
دائما ما يتطلع الشباب الى النتائج والنهايات ولكنم لا يرون تلك البدايات التي صنعت هذه النتائج , لا يرون حجم المعاناة التي لاقاها أهل الإيمان قبل وصولهم الى نتائج تكتب بماء الذهب . بل إنَّ أحدهم يريد أن يكون صدِّيقا من دون أن يتعرضَ لفتنة واحدة وإن تعرض لفتنة انقلب على عقبيه خسر الدنيا والآخرة .
فالبعض يقول هذا نبي معصوم , عصمه الله من فتنة النساء وجعله خالصا له فكيف لنا بذلك , ويبدأ يحدث نفسه ويحتال عليه الشيطان ليقول له ستتوب يوما ما , وما فعله يوسف كان فِعلَ نبي وليس بشر عادي , وبهذا يحتال عليه الشيطان مرة تلو المرة حتى يجعله يُسقِطَه في الامتحانات والاختبارات الالهية .
فإن كان يوسف نبيا فهل كان أبو بكر نبي ؟! وهل كان صلاح الدين نبي ؟! وهل كان القعقاع نبي ؟!
بل لو كان ما تحمَّلَهُ هذا النبي لا يقوى عليه بشر هل كان الله ليقول في كتابه الكريم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } ؟؟!!
لقد دعانا الله سبحانه لأن نتشبه بالنبي ونسير على خطاه , فلو كان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوى عليه بشر لما دعانا اليه ربنا وطالبنا بمتابعته , حاشَ للهِ أن يطالب عباده بما لا يطيقون .
بعد هذا العرض السريع والموجز لما تعنيه الابتلاءات والفتن , وما يكون من أمر البدايات من مِحَنْ , وما تؤول إليه النتائج من نجاح أو وَهَن حينها ينطق لسان المؤمن ليقول لأعدائه "إنَّما لا بأسْ" , نعم أنما لا بأس فمهما اشتد سواد الليل فلن يكون أكثر وحشة من ظلمة البئر التي أنارها الله برحمته ولطفه بعبده يوسُف , ومهما تكالبت عليك الفتن في الطرقات فلن تصل الى أن تجتمع نسوة المدينة كلها لتفتنك , ومهما حيكَ ضدك من كلام فلن تسجن في زنزانة كالتي كان فيها يوسف عليه السلام , ومهما فعل أهل الباطل من إجرام فلن يحولوا بينك وبين النتائج إن أنت أحسنت البدايات .
حينها ننشد جميعا ضد أهل البغي والظلم والمنافقين لنقول لهم :
أرونا بطشكم هيا ارونا... وطيشوا واملئوا من السجون
وآذونا بكل قوى لديكم... وزيدونا فإنَّا صابرون
نعم هذه هي عقيدة المؤمن , عقيدة راسخة لا تزلزلها الجبال , إيمان بالله لا تزعزعه الفتن , إخلاص وتجريد التوحيد لله , حتى قال عنهم ملك الصين حين طلب يزدجرد أن ينجده ضدهم : إنَّه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيشٍ أوله بمرو(مدينة في خرسان وهي الآن تابعة لروسيا) وآخره بالصين جهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدُّوها، ولو خلِّي لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم، وأرض منهم بالمساكنة، ولا تهّجهم ما لم يُهيجوك . ذكره ابن جرير في تاريخه (3/249). نعم هو الصبر على البلاءات والفتن هو الطريق الى هذه النهايات , ولذا نقولها بصوت مرتفع لكل طاغوت وجبار عُتُلٍ عنيد , نقولها لكل شهوة وفتنة عرضت علينا من الدنيا لتصرفنا عن الآخرة , نقولها لأنفسنا تصبيرا بأن الله وما عند الله خير وأبقى , نقولها دوما في السجن وخارجه , نقولها في فتنة الشام وفلسطين , نقولها في سجن أبو غريب والأنبار , نقولها في الشيشان وبورما وكشمير , نقولها للعالم أجمع " إنَّما لا بأسْ " فنحن ماضون على الدرب لا نلين ولا نستكين حتى يحول الله بيننا وبينكم وينجز لنا موعودنا , فوالله إن باطن الأرض خير لنا من ظاهرها ما دام دنيانا لا يقام فيها شرع الله وحكمه , ولا خير فينا إن رضينا بهذه المهانة وهذا الذل , فلتصبوا علينا حمم ناركم وجحيمكم فلن تصدونا عن ديننا ما حيينا أبدا .